• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحج.. رحلة السلام إلى البلد الآمن

الحج.. رحلة السلام إلى البلد الآمن

◄يقول تعالى: (وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام) (إبراهيم/ 35).

.. ويشاء الله سبحانه أن يجعل للنّاس حرماً آمناً، وأرضاً للسّلام، يملأ ذكرها النفوس بالأمن والطمأنينة. وتشيع مناسكها في ربوع الدنيا السّلام واحترام الحياة، ليربّي الإنسان على احتراماً الأمن وحبّ السّلام، فتتوارى نوازع الشرّ والعدوان فيه.. تلك النوازع التي طالما دعته للولوغ في الدّماء والتمادي في سفكها بشكل دعا الملائكة أن تتساءل قبل خلقه واستخلافه: كيف يصلح لإعمار الأرض، ورعاية الحياة، من يفسد في الأرض. ويسفك الدّماء؟ (.. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدّماء، ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس إليك..) (البقرة/ 30).

أليست نزعته الاجراميّة هذه كافية لأن تحرمه من حق الوجود والعيش في رحاب الأرض؟؟

أليس الذي يسبّح بحمد الله، ويقدّس لعظمته ـ هو الجدير بإعمار الأرض، والحنو على الحياة واحترام إرادة الله وحكمته في خلقه.. وإذاً فمن أجل أن تمحى من الأرض هذه الجريمة.. وتنسى من دنيا الإنسان هذه الخطيئة.. راح الإسلام يربّي في نفس الحاج الدعوة إلى الأمن والسّلام.. ويزرع في نفسه مفهوم الدين عن قدسيّة الحياة.. ليعلمه أنّ الحياة لا يستحقّها من لا يحترم الحياة.. وأنّ المسبّحين بحمد الله.. العارفين به، هم الجديرون بإعمار الأرض وإنعاش الحياة.. لأنّهم هم الّذين يحترمون إرادة الحياة كما جرت حكمة الله وعدله فيها..

لذا، فإنّ الحاج يجد في شعائر الحج ومناسكه: تربية عباديّة على احترام الحياة، يمارسها الإنسان ويستشعرها في ربوع البلد الآمن.. مكّة المكرّمة.. بلد الأمن والسّلام.. فجعل البيت الحرام، والبلد الحرام (مكّة) مثابة للنّاس، وأمناً تفزع إليه النفوس الخائفة، وتطمئن بجواره القلوب التي اعتراها الخوف فأفقدها لذّة الحياة..

ولا ينحصر استشعار الأمن في رفوع هذا البيت في التخلّص من مخاوف الحياة وحدها.. بل وهو أيضاً أمان للنّاس من الذنوب، وموضع للتّوبة والرّجوع إلى الله سبحانه، والدخول في أمنه من العقاب والسّخط، لذا كرّر القرآن آياته مؤكّداً على قدسيّة هذا الحرم وأمنه، فراح يسوق الآيات، ويكرّر عبارات (الأمن، والحرام) ليوحي للإنسان، ويشعره بقيمة هذه الحقيقة في الحياة.. حقيقة الأمن والسّلام، ليحرّر الإنسان من الخوف.. عقدته الكبرى، ومحنته التي تطارده في كلّ العصور: (فليعبدوا ربّ هذا البيت *ا لّذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) (قريش/ 3 ـ 4).

(وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا بلد آمناً..) (البقرة/ 126) .

(وإذ قال إبراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) (إبراهيم/ 35).

(فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً..) (آل عمران/ 97).

(وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمناً..) (البقرة/ 125).

(والتين والزّينون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين) (التين/ 1ـ 3).

(إنّما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة الّذي حرّمها وله كلّ شيء وأمرت أن أكون من المسلمين) (النمل/ 91).

(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للنّاس والشّهر الحرام..) (المائدة/ 97).

(.. وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً..) (المائدة/ 96).

(يا أيّها الّذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) (المائدة/ 2).

وليست هذه النصوص وحدها هي التي تتحدّث عن الأمن والسّلام وحرمة الحياة واحترامها. بل هذا بعض من القرآن تحدّث عن حرمة البيت الحرام.. (الكعبة).. والبلد الحرام (مكّة)،.. والشهر الحرام (شهر الحجّ)، وأكّد على الامتناع عن سفك دماء الحيوانات البريّة،.. واصطيادها.. وقطع النباتات والأشجار التي نمت تحت ظلال بيت الله، وفي حرمه الأقدس.. وقتل الحشرات والهوام مادام الحجّيج محرمين.. ليغرس في نفس الإنسان احترام الأمن، وحبّ السّلام، وينتشله من العبث والجريمة وسفك الدماء.

وهكذا كان الحج رحلة السّلام إلى بلد الأمن والسّلام.. رحلة يستشعر فيها الحاج قيمة الأمن في نفسه.. وفي مجتمعه.. ومع بارئه الذي جعل له هذه البقاع المقدّسة بقاعاً آمنة، تطمئن فيها نفسه، وتأمن غضب خالقها برجاء عفوه، واستشعار رحمته والدخول في حمايته، فيعود الحاجّ وهو مهيّأ للتّوبة.. مستعد للصّلاح.

وما أجمل تشخيص الإمام جعفر الصّادق (ع) لهذه الحقيقة وهو يخاطب الحاج بقوله: «وأدخل في أمان الله، وكنفه وستره، وكلاءته من متابعة مرادك بدخول الحرم، ودخول البيت متحققاً لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه».►

ارسال التعليق

Top